فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (3):

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب}:

.قال البقاعي:

وصف الله المتقين بمجامع الأعمال تعريفًا لهم فقال: {الذين يؤمنون بالغيب} أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره، وعبر بالمصدر للمبالغة.
{ويقيمون الصلاة} أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها.
ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدمًا للجار ناهيًا عن الإسراف ومنبهًا بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وآمرًا بالورع وزاجرًا عما فيه شبهة لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه {ومما رزقناهم} أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم {ينفقون} أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام.
قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج {إن الذين كفروا ويصدون} [الحج: 25] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار. انتهى.
وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91] قاطع في ذلك.
وقال الحرالي: {يؤمنون} من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه، و{الغيب} ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة {يؤمنون} و{يقيمون} تقتضي الدوام على الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و{الصلاة} الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفًا شاملًا، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة.
ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنيًا على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهدًا للإيمان وتكرارًا، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما.
ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفًا غير متمسك بأمر كان إذا أرشد إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيبًا، فإذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول.
فإذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضًا انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس. انتهى. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: {الذين يُؤْمِنُونَ} إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب أو مدح مرفوع بتقدير أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين، وإما منقطع عن المتقين مرفوع على الابتداء مخبر عنه ب {أولئك على هُدًى} فإذا كان موصولًا كان الوقف على المتقين حسنًا غير تام، وإذا كان منقطعًا كان وقفًا تامًا. اهـ.
قال الفخر:
قال بعضهم: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلًا للحسنات وتاركًا للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ} وإما أن يكون فعل الجوارح، وأساسه الصلاة والزكاة والصدقة؛ لأن العبادة أما أن تكون بدنية وأجلها الصلاة، أو مالية، وأجلها الزكاة؛ ولهذا سمى الرسول عليه السلام: «الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام» وأما الترك فهو داخل في الصلاة لقوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] والأقرب أن لا تكون هذه الأشياء تفسيرًا لكونهم متقين؛ وذلك لأن كمال السعادة لا يحصل إلا بترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي، فالترك هو التقوى، والفعل إما فعل القلب، وهو الإيمان، أو فعل الجوارح، وهو الصلاة والزكاة، وإنما قدم التقوى الذي هو الترك على الفعل الذي هو الإيمان والصلاة والزكاة، لأن القلب كاللوح القابل لنقوش العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، واللروح يجب تطهيره أولًا عن النقوش الفاسدة، حتى يمكن إثبات النقوش الجيدة فيه، وكذا القول في الأخلاق، فلهذا السبب قدم التقوى وهو ترك ما لا ينبغي، ثم ذكر بعده فعل ما ينبغي. اهـ.

.قال القرطبي:

الإيمان في اللغة: التصديق؛ وفي التنزيل: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] أي بمصدق؛ ويتعدّى بالباء واللام؛ كما قال: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] {فَمَا ءامَنَ لموسى} [يونس: 83].
وروى حجاج بن حجاج الأحول ويلقب بزق العَسَل قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السّأْمة والفَتْرَة والملّة؛ ولكنّ المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المُتقوَّى، والمؤمن هو المتشدّد، وإن المؤمنين هم العجّاجون إلى الله الليل والنهار؛ واللَّهِ ما يزال المؤمن يقول: ربَّنا ربَّنا في السرّ والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.

.فائدة: في معنى الغيب:

قوله تعالى: {بالغيب} في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء؛ يقال منه: غابت الشمس تَغيب؛ والغيبة معروفة.
وأغابت المرأة فهي مُغيبة إذا غاب عنها زوجها؛ ووقعنا في غَيبة وغَيابة، أي هبطة من الأرض؛ والغيابة: الأَجَمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها؛ ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
الثالثة: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا؛ فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه.
وضعّفه ابن العربي.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار.
قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
قلت: وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان.
قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقَدَر خيره وشره» قال: صدقت.
وذكر الحديث.
وقال عبد اللَّه بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب}.
قلت: وفي التنزيل: {وَمَا كُنَّا غَائبِينَ} [الأعراف: 7]، وقال: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [الأنبياء: 49].
فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مَرْئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال؛ فهم يؤمنون أن لَهم رَبًّا قادرًا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض؛ والحمد لله.
وقيل: {بالغيب} أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين؛ وهذا قول حسن.
وقال الشاعر:
وبالغيب آمنّا وقد كان قومُنا ** يصلّون للأوثان قبل محمّد

. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن عاشور:

يتعين أن يكون كلامًا متصلًا بقوله: {للمتقين} [البقرة: 2] على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيلٍ يعرف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفًا مؤمنين وصنفًا كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان: هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين.
وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان: فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4] إلخ.
فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلًا لما جاء من اليمن راغبًا في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعًا في الملك هو من غير المتقين.
وفريق آخر يجيء ذكره بقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} [البقرة: 4] الآيات.
وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله: {يؤمنون بالغيب} أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذانًا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
وجوز صاحب الكشاف كونه كلامًا مستأنفًا مبتدأ وكون: {أولئك على هدى} [البقرة: 5] خبره.
وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيرًا من الخطيب والمتكلم لاسيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن.
والغيب مصدر بمعنى الغيبة: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} [يوسف: 52] {ليعلم الله من يخافه بالغيب} [المائدة: 94] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ** من آل لام بظهر الغيب تأتيني

وفي الحديث: «دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة» والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحًا بأنه واقع أو سيقع مثل وجودِ الله، وصفاتِه، ووجودِ الملائكة، والشياطين، وأشراطِ الساعة، وما استأثر الله بعلمه.
فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفًا مستقرًا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذٍ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك.
وفي حديث الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» وهذه كلها من عوالم الغيب.
كان الوصف تعريضًا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7] فجَمَع هذا الوصف بالصراحة ثناءً على المؤمنين، وبالتعريض ذمًا للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذمًا للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيُعْقَب هذا التعريضُ بصريح وصفهم في قوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم} [البقرة: 6] الآيات.
وقوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} [البقرة: 8].
ويؤمنون معناه يصدقون، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية، فأصل آمن تعدية أَمِن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمنًا ثم أطلقوا آمن على معنى صدَّق ووَثِق حكَى أبو زيد عن العرب: ما آمنت أَنْ أجد صحابةً يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر، فصار آمن بمعنى صدَّق على تقدير أنه آمن مُخبِرَه من أن يُكذِّبه، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كَذِب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه، ثم صار فعلًا قاصرًا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمْن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أَقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية، ويضمنونه معنى اطمأَن فيقولون آمن له: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75].
ومجيء صلة الموصول فعلًا مضارعًا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفًا، أي لايطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة.
وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسموْن بالدُّهْريين الذين قالوا: {ما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجودَ الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك.
والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجئ عند قوله تعالى: {وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8]. اهـ.